الخميس ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

وجهُ الصمتِ الآخر

في فناءٍ خاوٍ، حيثُ تتقاطعُ أشجارٌ طويلةٌ بلا أوراق، جمعتِ الصدفةُ الأربعةَ حول نافورةٍ جفَّت مياهُها منذ زمن. كان الهواءُ مشبعًا برائحةِ الترابِ الرطب، والسماءُ تتدلّى كغطاءٍ رماديٍّ يضغط على كلِّ شيءٍ بصمتٍ ثقيل.

قالت المرأةُ العجوز، وعيناها كمرآةِ البحرِ العميق: «هل تعتقدون أنَّ الصمتَ يُخبّئ الحقيقةَ أم يطمرها؟»

أجاب رجلٌ ذو لحيةٍ كثّة، صوته كخريرِ الماءِ البارد: «الصمتُ ليس إلا ضوضاءَ لم تُسمع بعد. الحقيقةُ هنا، لكنها ترتجفُ من الخوف.»

شابةٌ تقفُ على حافّةِ الظلّ، تلمسُ جدارًا مغطّى بالطحالب، همست: «وأين يكون الضوءُ حين يختبئُ خلفَ كلِّ هذا؟»

ردَّ شابٌّ آخر، واضعًا يدَه على قلبه: «الضوءُ يُولَدُ من الأسئلة، لا من الإجابات. نحن هنا فقط لنطرحَها.»

بدأتِ الظلالُ تتحرّكُ بين الأشجار، وكأنّ الفناءَ يتنفّسُ معهم. الريحُ لم تكن سوى همسٍ يحملُ كلماتٍ لا يفهمها إلا الذين استمعوا حقًّا.

قالتِ المرأةُ العجوز:
«كلٌّ منّا يحملُ بوّابةً بداخله. إذا فُتحت، ستعرف أنّ العالمَ ينتمي إلى ما نتركه فيه من صمت.»

ابتسمَ الرجلُ كثّ اللحية، مقلِّصًا عينيه: «أحيانًا لا نجدُ البواباتِ إلا عندما نخسرُ شيئًا ثمينًا، شيئًا لا نستطيعُ تعريفَه.»

قالت الشابة: «هل الخسارةُ هي المعلّم؟ أم أننا نصنعُها لأننا نخافُ من مواجهةِ الفراغ؟»

عاد الصمتُ ليملأ المكان، لكنْ هذه المرّة لم يكن فارغًا. بدأ الفناءُ يتلألأ بخيوطِ ضوءٍ خافتة، كأنّ الأرضَ نفسها تحاولُ إخبارهم سرًّا قديمًا.

قال الشابُّ الأخير: «ربما كلُّ ما نراه ليس سوى انعكاسٍ لأنفسنا. إذا اختفى الظلّ، هل يظلُّ الضوء؟»

ابتسمَ الجميع، لكنّ ابتسامتهم لم تكن للآخرين، بل لأنفسهم. كلُّ واحدٍ منهم فهم أنَّ الحوارَ لم يكن عن الإجابة، بل عن السؤالِ نفسه؛ عن رحلةِ البحثِ في الفراغ، عن لقاءِ ما بداخلهم وخارجهم.

مع انتهاءِ النهار، غادروا الفناءَ واحدًا تلوَ الآخر، لكنّ صدى أصواتهم ظلَّ يتردّدُ بين الأشجار، وكأنّ المكانَ قد تعلّم شيئًا عن الصمت، وعن البواباتِ التي لا تُفتحُ إلا لمن يجرؤ على السؤال، لا لمن يريدُ الجواب.

لم تمضِ سوى لحظاتٍ على مغادرتهم حتى بدأتِ الأماكنُ تهتزّ، كأنّ شيئًا ما يُبعثُ من أعماقها. عاد الأربعةُ من حيث خرجوا، مدفوعين بقوّةٍ لا يرونها. كانتِ البوّابةُ التي تحدّثتْ عنها المرأةُ العجوز قد ظهرتْ فجأةً في قلبِ الفناء، بابًا من ضوءٍ وسرابٍ، لا يُفتحُ ولا يُغلق، بل ينبضُ مثلَ كائنٍ حيّ.

قالتِ العجوزُ وهي تقتربُ بخطواتٍ متباطئة:

«ها هي البوّابة، لم تفتحْ لنا إلا بعد أن أنصتنا لأنفسنا.»

أجابَ الرجلُ ذو اللحية:
«لكنّ الدخولَ لا يعني النجاة، بل بدايةَ التيه.»

قالتِ الشابةُ وهي تحدّقُ في الضوء: «ربما التيهُ هو الطريقُ الوحيدُ الذي يقودُ إلى الفهم.»

وأضافَ الشابُّ الآخر:«أو إلى الفقدِ الذي نحتاجُه كي نرى ما لم يُرَ.»

كانتِ الريحُ تدورُ حولهم، تحملُ أصواتًا بعيدةً تشبهُ صدى البحرِ في كهفٍ منسيّ. رأوا وجوهَهم في سطحِ الضوء، لكنها لم تكن وجوهَهم ذاتها؛ كلٌّ منهم كان يرى في ملامحه حياةً أخرى، مسارًا لم يعشه بعد.

اقتربتِ العجوزُ، وضعتْ يدَها على البوّابة. عمَّ انتشارُ الضوء، وتحوّلَ الفناءُ إلى فضاءٍ لا نهائيٍّ من الرؤى. ظهرتْ صورُهم وهم يتحاورون في أماكنَ أخرى: في مدنٍ من رمال، في أنهارٍ تتلاطمُ أمواجُها، في صحارى يسكنها الحلم.

قالَ الرجلُ كثّ اللحية: «ربما نحن لم نأتِ إلى هنا، بل جئنا من هنا.» ضحكتِ الشابةُ ضحكةً قصيرة، كأنها اكتشفتْ فجأةً أنَّ كلَّ ما عاشته كان وهمًا مُرتّبًا بعناية.

ثم انطفأ الضوءُ تدريجيًّا، وبقيتِ البوّابةُ متّقدةً كجمرةٍ في عتمةِ الفناء. نظرَ الأربعةُ إلى بعضهم، وكأنهم تذكّروا أنهم غرباءُ في الحلمِ ذاته.

قالتِ العجوز: «من يعبرْ هذه البوّابةَ لن يعودَ كما هو.»

فقال الشابُّ الآخر: «وهل عاد أحدٌ كما كان بعد أن أدركَ المعنى؟»

في تلك اللحظة، خطَوا جميعًا إلى الداخل. لم يكن هناك ضوءٌ ولا ظلام، بل شيءٌ ثالثٌ بينهما، كأنهما امتزجا ليخلقا وعيًا جديدًا. كانت الخطواتُ تتلاشى، والأصواتُ تتكاثر، والمدينةُ في البعيدِ تستيقظُ من نومِها الطويل، غيرَ مدركةٍ أنَّ أربعةَ ظلالٍ خرجتْ منها إلى مكانٍ لا يُعرفُ إن كان حلمًا… أم البدايةَ الحقيقيةَ للعالم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى