من داخل اللوحة
حين دخل أبو ضحى الغرفةَ لأوّل مرة بعد غيابٍ طويل، لاحظ أنّ الضوء يتجمّع في زاويةٍ واحدة، كأنّه يخاف أن ينسكب على بقيّة الأشياء. كانت الغرفة هادئة؛ لا بمعنى السكينة، بل بمعنى ذلك الصمت الذي يسبق قولًا مُؤجَّلًا منذ زمن.
اللوحة المعلّقة على الجدار لم تكن هناك في السابق، أو لعلّه لم ينتبه لوجودها إلا الآن، بعد أن تهشّمت أجزاءٌ من ذاكرته وصارت الصور المألوفة تبدو غريبة، كأنها زُحزحت خطوةً عن مكانها. اقترب منها بتردّد، وشعر بأنّ شيئًا ما يستدعيه.
كانت تلك اللوحة من عمل ريشته؛ اللوحة الأولى التي بدأها يوم أتقن الرسم، وظلّ يعود إليها ليؤرّخ في طبقاتها يومياته كلّما تغيّر شيءٌ في داخله. ومع ذلك، بدا له أنّ الألوان لم تعد مطيعة كما رسمها.
الأزرق يلتفّ حول نفسه كدوّامةٍ تبحث عمّا تخفيه، والأصفر يشتعل كقنديلٍ يتنفّس بصعوبة، أمّا الأبيض فيظلّ معلّقًا بين أن يكون نورًا يشقّ العتمة أو أن يبقى في حيرته. بدت اللوحة كأنّها بابٌ نصف مفتوح على مكانٍ لا تُدركه عينٌ واحدة.
جلس أبو ضحى على الكرسيّ الخشبيّ المقابل. شعر بأنّ الهواء تغيّر؛ صار أثقل قليلًا، كأنّ الغرفة دخلت بدورها في حالة تفكير.
ثمّ لمع في اللوحة خطّ رفيع؛ لم يكن ضوءًا عابرًا من النافذة، بل شيئًا يشبه نَفَسًا خرج من قلب الصورة. لوهلةٍ خُيّل إليه أنه يسمع صوتًا لا يُسمَع بالأذن بل بالجلد؛ اهتزازًا خفيفًا في الهواء.
كانت اللوحة تخاطبه بلا كلمات، وتبعث إليه إحساسًا واضحًا: "اقترب… فكلّ ما تراه ليس ثابتًا."
اقترب أكثر، فرأى ما لم يتوقّعه. لم تكن الصورة مجرّد ألوان؛ بل ذكرى بعيدة كان يتعمّد إقصاءها. رأى امرأةً تقف في زاوية اللوحة، وجهها غير واضح، لكن هيئتها مألوفة على نحوٍ يوجع. ورأى طفلًا يركض نحو شيءٍ لا وجود له، ورجلًا يخرج من إطارٍ مفتوح على فراغٍ صامت.
قال الرجل داخل اللوحة، بصوتٍ لا يشبه أصوات البشر: "أتظنّ أننا مجرّد رسم؟" ارتعش قلب أبي ضحى.
قال بصوتٍ خافت: "أنتم انعكاسُ شيءٍ أعرفه… شيءٍ لم أواجهه."
ردّ الرجل: "بل أنت انعكاسُنا. نحن هنا لأنك هناك."
ضحكت المرأة ضحكةً لا تأتي من حنجرة، بل من انحناءة خطّ، وتقدّم الضوء الأصفر خطوة إلى الأمام، كأنّه يصغي.
وتغيّر شكل الغرفة؛ امتدّ الجدار إلى داخل اللوحة، وصار طلاء السقف القديم سماءً ذات غيومٍ مشقّقة، وأصبح الهواء يشبه غرف الأحلام التي لا تنتهي. قال الطفل داخل اللوحة:
"أين كنت؟ تركتَنا نكبر بلا زمن."
جلس أبو ضحى على الأرض، منهكًا.
قال: "لم أترك أحدًا… كنت أهرب فقط."
ابتسم الطفل ابتسامةً لا تنتمي إلى وجه: "الهروب نوعٌ آخر من البقاء."
ثم بدأت اللوحة تكشف طبقاتها: لم تكن امرأةً واحدة، بل ثلاثة ظلالٍ تتعاقب كصفحاتٍ لم تُقلب.
ولم يكن طفلًا واحدًا، بل سلسلةً من الخطوات المتقطّعة.
ولم يكن الرجل وجهًا واحدًا، بل وجوهًا تتبدّل فوق ملامح لا تتغيّر.
قالت اللوحة بصوتٍ يشبه الصمت الثقيل: "كلّ ما لم تُواجهه يعود إلينا.
نحن رسائلك الممزّقة… والمصائر التي دفنتَها قبل وقتها."
اقترب أبو ضحى حتى صارت أنفاسه تشوّش السطح المصقول بالورنيش.
همس: "وماذا تريدون منّي الآن؟"
جاءه الردّ من العمق المختبئ خلف الألوان: "أن تفهم… لا لنرتاح نحن، بل لتهدأ أنت."
لم يعرف كم مرّ من الوقت. كان الليل في الخارج ساكنًا، واللوحة تتحرّك ككائنٍ يتعلّم الكلام. نهض ببطء، ومدّ يده فلامس الإطار. ارتجّ المكان لحظةً، ثم اختفت الظلال وعادت بشكلٍ آخر، كأنّ اللوحة أدركت أنه أخيرًا قبل الدخول إليها؛ لا دخولًا جسديًا، بل دخول وعيٍ استيقظ بعد سباتٍ طويل.
خرج من الغرفة وأغلق الباب بهدوء، تاركًا الضوء الأصفر يتأرجح داخل اللوحة وحيدًا، يبحث في الليل عن ذاكرةٍ أخرى تستعدّ للانكشاف.
