السبت ١٦ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

لحظة الانتظار

المطر لا يتوقف. المحطة ساكنة. الصمت المبلَّل. أصوات نقرات الماء على الأرض. نوافذ ضبابية تُخفي وتُظهر وتُخفي. سامي واقف، عيناه على الساعة. الوقت يتلاشى، يتشظّى. القطار؟ غائب. تأخير؟ لا خبر. كل ثانية ثقيلة، ثقيلة كأنها تسحب أنفاسه إلى الأسفل.

في تلك اللحظة المعلَّقة، تلتقي حركة قطرات المطر المتساقطة برتابة الزمن المتجمّد، فتخلق سيمفونية صامتة تملأ الأجواء. يلتقطها القلب أكثر من الأذن، فتغدو الأصوات الصغيرة مثل رنين قطرة ماء تسقط في بركة نبضات تذكير بحضور اللامرئي.

رجل يقف بجانبه، يتحدث عبر الهاتف بصوت متقطع، منفجر أحيانًا ومكسور أحيانًا أخرى: همس، ثم صراخ، ثم ضحك خافت. كلمات تتطاير مثل زجاج مكسور: أسرار، اضطراب، وربما خوف. سامي يسمع تفاصيل غير مفهومة تتشابك في رأسه. سؤال يمرّ: ما السر؟ ما الذي يُخفيه الوقت خلف هذا الانتظار؟

تبادل سامي نظرة مع الرجل، فمال نحوه هامسًا:

ــ "هل تظن أنّ الانتظار هنا مجرد لحظة ضائعة؟"

أجابه الرجل بنبرة مترددة:

ــ "أحيانًا يكون الانتظار أكثر من مجرد وقت مهدور؛ إنه مساحة نواجه فيها أنفسنا، نتوقف لنصغي لما لا يُقال."

ابتسم سامي بصمت، وهو يشعر بثقل الزمن يكثّف وجوده.

الحوار يتموّج كموجات غير مستقرة، ينفلت من حدود اللغة إلى فضاء اللاوعي، يخلق حول سامي هالة من التشويش والفضول، حيث تتقاطع الأحاسيس والأبعاد بين الحاضر والبعيد، مثل أنين خافت يختلط بخرير المطر، يغلف اللحظة بغموض مهيب.

فلاشباك: صديق قديم، محطة أخرى، زمن آخر. وعد لم يُفِ به. وجهه، ضحكته، لكنه لم يأتِ. الحزن الذي حمله سامي في داخله دفنه بين ثنايا الصمت.

ذكريات تختلط فيها صور باهتة بأطياف ألم، كأنها ضوء خافت ينكسر عبر نافذة محطمة، يلامس شغاف الروح، حيث تُدفن الكلمات بين السطور، وتفقد اللحظات ألوانها لتصبح رموزًا صامتة لا يفكّ شيفرتها إلا القلب.

صوت القطار يلوح من بعيد، يقترب ببطء. أزيز معدني يتردّد في الهواء، يحمل معه فرصة. يتنفس سامي بعمق. شيء يتغيّر، فكرة تترسّخ: الانتظار ليس مجرد لحظة ضائعة، بل توقف وتأمل ولقاء مع الذات.

صوت القطار لا يجيء فقط كموجة فيزيائية، بل كنداء داخلي يدعو إلى انبعاث جديد. يحمل بين ذبذباته طاقة تسامح مع الذات، ويعيد ترتيب فسيفساء الأحاسيس في أعماق سامي، ليمنحه لحظة وضوح وسط الغموض.

الرجل يغلق هاتفه ويمضي بعيدًا. سامي يصعد القطار. يتنفس عميقًا، يحمل في صدره قرارًا جديدًا، لا نعرفه بعد، لكنه حاضر، نابض.

الخطوة التي يخطوها سامي ليست مجرد عبور مكان، بل انتقال في بوتقة الزمن الداخلي، حيث تتلاقى المرايا المنكسرة لتخلق صورة جديدة، صورة تفيض بالإرادة واليقين، لحظة يُعاد فيها تعريف الوجود ذاته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى