الثلاثاء ٢٩ تموز (يوليو) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

مقهى حامد

كانت الطاولة الخشبية الوحيدة في الزاوية تبدو كما هي. خُيّل إليّ أنه لم يُمسّ منذ رحيلهم.

الكرسي الذي يشبه نصف ذاكرة، كان مائلًا قليلًا للوراء، كأن أحدهم نهض عنه للتو. في الزجاج العتيق انعكست صور مشوّشة: أنا، والضوء الشاحب، ووجوه لم تعد هنا.

أتذكّر أبي كان يجلس هنا.

أتذكّر عمّي كان يجلس هنا.

كان عمي يجالسني بعدما يأخذني من أبي، وأحيانًا أكون بينهما فأسمع وأنصت للكلام الكثير، حتى بعضه خاصٌّ.

وأتذكّر... أصواتًا مبحوحة كانت تسابق دخان سجائرهم الثقيلة، تتقاطع بأسماء لم أعد متأكدًا من أنها حقيقية: أبو حمزة، أبو سامية، كريم. كانوا يتجادلون بحماسة حول أخبار الحرب، عن القيادة، عن عساكر عادت بأطراف مبتورة، وآخرين ما عادوا أصلًا.

الصحف الورقية تتطاير على الطاولة، كأنها منشورات لثورة لم تأتِ.

القهقهات… لحظات تهرب قصيرة من ثقل الوقت. كل شيء الآن صامت. المقهى بلا رائحة، بلا ضجيج.حتى النادل لم يعد هو. شاب بالكاد يبلغ العشرين، ينظر إليّ كمن يحدق في شبح.

"قهوة؟" سألني بتردد.

هززت رأسي دون كلام.

كانت الطاولة تعرفني. ربما ما زالت تحتفظ بحرارة أكفهم.

أبي كان هنا، أظنني سمعته يهمس: "لا شيء يتغير حقًا، نحن فقط نغيب."

الضوء يتسرب من بين الشقوق القديمة، والجدران متآكلة كأنها فقدت شهيتها للحياة.

أتأمل المكان. كأنني الوحيد الذي يتذكر. أم أنني أيضًا لم أعد سوى ذاكرة؟

أنباء ترد في نشرات متأخرة، وأخرى تتسرب على ألسنة الناس، بائع الصحف، ذاك النحيل، يصرخ بعناد خفيف، يمضغ أسماء المدن كمن يتأرجح فوق بارود مشتعلة:

"القيادة تنفي... الانفجار لم يكن في الموقع المُعلن." في الزاوية، كان صاحب المقهى، الذي يشبه صخرة مضغها الزمن، يتمتم كمن يشرب من نبيذ قديم:

"الحرب لا تكبر، نحن فقط نصغر أمامها."كان أبي يرفع رأسه بهدوء، نظرة بعيدة، بعيدة جدًا، لا تعلق بشيء.

عمّي يعبث بملعقته في كوب الشاي، ثم يسأل:"أحقًا تعتقد أن النهاية بيدهم؟"ضحك أبي بصوت لم يسمعه أحد غيره.

"لا أحد يُنهي شيئًا... كل ما هنالك أن الضوء يخفت من تلقائه."

في لحظة، انفتح باب المقهى بصرير قديم،

دخل كريم...

المعطف ذاته، الحذاء المغبر، ونظرة ذلك الذي عاد من منطقة لم تعد موجودة.

جلس دون سلام.أخرج سيجارة دون أن يشعلها. سقطت البلدة... لكنهم قالوا العكس." أخبار كاذبة بالتأكيد.

لم يجب أحد.

بائع الصحف مضى.الخبر تغيّر.والمقهى... بقي كما هو.

وحده أبو سامية لم يحضر.غريب، كان من النادر أن يغيب عن جلسته الصباحية.

قيل إن شجارًا اندلع ليلًا في داره، بين زوجته الأولى التي تكبر الثانية بعشر سنوات، وبين سكينته

التي لم تسكن أو تهدأ إلا نادرًا.

أحدهم قال: مشاكله مشتعلة لا تُطفأ، وآخر زعم أنه خرج قبل الفجر ولم يُرَ بعد.

في الخارج، العجوز النشيطة التي تتسوق من سوق سعد القريب، كانت تهرول.

صوت طائرة، ليس من النوع الذي لا يخطئه الناس، صفير، فاهتزت الأرض، تأرجحت الجدران كأنها تتنفس خوفًا.

عليوي، فاقد البصر، صرخ من الزاوية المعتمة قرب الفرن:خلوني من هالمكان... وين أولادي؟"

رغم بعد القصف، اهتزت الكراسي، وانسكب بقايا الشاي من الفناجين الفارغة.

حسن التاجر، صاحب محل السجائر المعلبة والتبغ غير الملفوف، أغلق باب دكانه سريعًا، لم يقل شيئًا...

لكن وجهه كان كافيًا ليُفهم الجميع أن الأمر ليس خفيفًا.

الناس هرعوا نحو فلكة باب الشطرة، كأن كل الطرق اختُصرت هناك، نحو نقطة تفتيش للخلاص.والمقهى... بقي كما هو.

وفي الزاوية، الكرسي الذي يشبه نصف ذاكرة، ما زال مائلًا قليلًا للوراء.

في آخر الجدار، تحت صورة قديمة بالأبيض والأسود لرجل ببدلة أقرب إلى اللون الرصاصي ونظرة

لم يعد أحد يفسرها، ظهر شيء لم يكن موجودًا في الأمس: خط صغير بالفحم، كتابة مرتجفة، بالكاد تُقرأ.

اقتربت.
كانت الأحرف تقول:عدنا جميعًا... إلا من صدق أنهم لن يعودوا."

التفتُّ، كان الضوء قد انسحب، والنادل اختفى، وصوت المذياع تلاشى. صوت آخر كان يتناهى من بعيد، ربما ضحكة، ربما صرخة، وربما... لا شيء.

ثم جاءت الأخبار تباعًا، تتسلل كما الغبار من ركن المذياع الصغير المهمل في الرف العلوي:

"الاشتباكات تمتد إلى مكانٍ آخر"انقطاع الاتصالات عن مناطق في الجنوب..."

تقدم غير مؤكد لقوات مجهولة في حزام الوطن، قيل إنه تم التصدي لها."

"بيان جديد يصدر بعد قليل عن القيادة." "نفي رسمي عن سقوط الجسر الثالث، رغم صور تظهر تصاعد الدخان. " "رؤية أضواء غريبة في السماء فوق المدينة المجاورة..."

"أنباء غير مؤكدة عن إعلان حظر تجوال غير معلن." المذياع لم يكن واضحًا، الذبذبات تتقطع، أصوات المذيعين تتهجى الكلمات كأنها تُقال لأول مرة.

في الزاوية، على الطاولة المهجورة، خفتت حرارة فنجان القهوة من تلقاء نفسها. أحدهم أغلق النافذة. الهواء تغيّر. وعلى طرف الطاولة، كانت جريدة الأمس ترتجف وحدها. كأنها تعرف ما لم يُكتب بعد.

(*) مقهى حامد، والأسماء الواردة في هذا النص، قد استُبدلت بأسماء غير حقيقية لأصحابها. ورغم أن الأحداث الواردة حقيقية، فقد صيغت بأسلوب قصصي، مراعاةً لضرورات الكتابة الفنية في السرد.
يقع مقهى حامد على الطريق الممتد من فلكة باب الشطرة إلى سوق سيد سعد، في أحد الشوارع الفرعية من الجانب الأيمن المعروف في مدينة الناصرية، جنوب العراق.

(**) قصة من مجموعة "نقوش الظل" القصصية، المخطوطة. كُتبت في سنوات متفرقة، وقد نُشر بعضها في عدد من المنصات المهتمة بالشأن الأدبي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى